وثائق الفتح الصلاحيّ | فصل

«وثائق الفتح الصلاحيّ واسترداد بيت المقدس من الفرنجة الصليبيّين» (2022).

 

صدر عن «دار العائدون للنشر والتوزيع» كتاب الباحث والروائيّ الفلسطينيّ تيسير خلف «وثائق الفتح الصلاحيّ واسترداد بيت المقدس من الفرنجة الصليبيّين: شهادات ومكاتبات وقصائد» (2022). ويضمّ الكتاب كلّ ما أمكن جمعه من الوثائق المرتبطة بالفتح الصلاحيّ لبيت المقدس، والنصوص المختصّة في عمليّة استرداده من الفرنجة الصليبيّين، إذ يعدّ هذا الفتح ’لحظة ناردة في تاريخ الأمّة، مفصليّة، بعيدًا عن سياق الحوليّات والتراجم"، بحسب الكتاب.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

شكّل استرداد القدس من أيدي الفرنجة الصليبيّين، على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب، حدثًا مفصليًّا في تاريخ العرب والمسلمين من جهة، وتاريخ أوروبّا المسيحيّة من جهة ثانية.

مع هذا الحدث الكبير من الناحية المعنويّة، الّذي تلا نصرًا عسكريًّا عظيمًا تمثّل بمعركة حطّين الفاصلة، بدأت كفّة الصراع ترجح لصالح العرب المسلمين، منذرة بنهاية الوجود الصليبيّ في بلادنا، هذه النهاية الّتي تأخّرت ما يزيد على قرن من الزمان نتيجة تخاذل صغار الحكّام الأيّوبيّين، من أحفاد القادة العظام أسد الدين شيركوه، والناصر صلاح الدين، والعادل أبي بكر بن أيّوب؛ فهؤلاء الّذين أسّسوا مجد الدولة العربيّة الإسلاميّة، مستلمين الراية من القائد العظيم نور الدين محمود بن زنكيّ، لم يعقبوا أولادًا وأحفادًا على قدر المسؤوليّة التاريخيّة الّتي اختُصّوا بها، فأجّلوا، من حيث لا يحتسبون، استكمال هذا الفتح الصلاحيّ المبارك مدّة طويلة من الزمن، استعاد الصليبيّون خلالها الكثير من المدن الّتي سبق أن استردّها صلاح الدين، ومنها مدينة القدس نفسها، ولكن في ظروف مختلفة.

نقل الفتح الصلاحيّ للقدس السلطان الناصر صلاح الدين نقلة كبيرة إلى الأمام، ووضعه في مرتبة كبار القادة العظام، أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرّاح (...) وغيرهم، وكرّسه بطلًا قوميًّا للعرب والمسلمين على مرّ العصور اللاحقة...

نقل الفتح الصلاحيّ للقدس السلطان الناصر صلاح الدين نقلة كبيرة إلى الأمام، ووضعه في مرتبة كبار القادة العظام، أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرّاح، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وغيرهم، وكرّسه بطلًا قوميًّا للعرب والمسلمين على مرّ العصور اللاحقة. أمّا سيرته المستمدّة من فهمه العميق لجوهر الإسلام، وتمثّله لأخلاق جيل الصحابة المؤسّس، فقد تحوّلت في الغرب إلى ما يشبه الأسطورة، وساهمت إلى حد كبير في تعديل صورة المسلمين في نظر الصليبيّين، فهو الفارس النبيل العفوّ المترفّع عن الانتقام وسفك الدماء وهو القادر، فكأنّ صلاح الدين جسّد في نظرهم، من الناحية العمليّة، أنبل قيم الفروسيّة الّتي كانوا يؤمنون بها في ذلك الزمن.

 

ما قبل الانتصار

عند مقاربة هذا الحدث، أي الفتح الصلاحيّ، عن كثب، نلحظ أنّ الأمر أتى نتيجة حتميّة لمسيرة الصعود الّتي بدأت في عهد نور الدين محمود، والمتمثّلة بالفهم الإستراتيجيّ العميق لماهيّة الدولة العربيّة الإسلاميّة ووظيفتها، ومواطن قوّتها وضعفها، واستلهامها لسيرة الصحابة الأوائل، وخاصّة قصص الفتوح الأولى، الّتي كرّست مفاهيم العدل والرحمة والعفو عند المقدرة، والبعد عن سفك الدماء وإزهاق الأرواح بالمجّان. الأهمّ من كلّ ذلك فهم الرسالة العظيمة الّتي قامت عليها فكرة الدولة في الإسلام، وهي في جوهرها رسالة خير ومحبّة للإنسانيّة جمعاء.

مع أنّ الأقدار هيّأت لهذا الفتح ثلاثة من أهمّ المُنشئين في زمنهم، وهم القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ، وعماد الدين الكاتب الأصفهانيّ، والقاضي بهاء الدين بن شدّاد الموصليّ، إلّا أنّ النصوص العربيّة المتعلّقة بهذا الحدث بقيت دون المستوى المأمول، حتّى العماد الأصفهانيّ الّذي توسّع أكثر من غيره في سرد تفاصيل هذا الحدث العظيم، غرق في لغة الدواوين والإنشاء والسجع، وتكلّف في اللغة، فأضاع تفاصيل كثيرة قرأناها في المصدر الصليبيّ الأهمّ، وهو أرنولد دي تروجا في «ذيل وليم الصوريّ» الّذي يعدّ ترجمة لكتاب «تاريخ وليم الصوريّ» لمؤلّفه وليم الصوريّ المؤرّخ الصليبيّ ورئيس أساقفة صور (1130 - 1186)، الّذي وصف معركة حطّين وفتْح القدس، بشكل أوضح من كلّ النصوص الّتي تناولت حدث الفتح.

ولكن من حسن حظّنا أنّ الدواوين تطوّرت كثيرًا إبّان الدولة الأيّوبيّة، وحفظ لنا كتّاب الإنشاء بعض الوثائق المتعلّقة بالفتح الصلاحيّ، وهي رسائل ومكاتبات وخطب قيلت في هذه المناسبة، تضيء الكثير من جوانب هذا الفتح، وتسلّط الأضواء على ما أغفله النصّ التاريخيّ الرسميّ، المعنيّ بسرد تحرّكات الزعماء والقادة بلغة مقتضبة محسوبة العبارات.

لعلّ السمة الأبرز لروح هذه الشهادات والوثائق الخاصّة بالمعسكر الإسلاميّ، هي حالة الإحساس العميق بالانتصار، أكان في رسالة القاضي الفاضل، أم في شهادة العماد الأصفهانيّ. في مكاتبات صلاح الدين، أم في المكاتبات الأخرى الّتي صاغها جنود في جيوش السلطان. في الخطبة العصماء الأولى بعد التحرير، الّتي خطبها محيي الدين بن الزكيّ في المسجد الأقصى، أم في القصائد الّتي وُضعت في تمجيد هذا الحدث العظيم.

 

الوثائق الصليبيّة 

في المقابل، تميّزت شهادات ووثائق المعسكر الصليبيّ بإحساس عميق بالهزيمة التاريخيّة والحضاريّة. فأرنول، وهو مقاتل عقائديّ أسير لا يخفي عقائديّته، سرد شهادته بإحساس عميق بالمرارة من جماعته، الّتي ابتعدت عن أخلاقيّات الفروسيّة، وإعجاب كبير بالخصم المنتصر الّذي جسّد كلّ القيم النبيلة الّتي فرّطت فيها جماعته.

وهذا الإحساس في ظنّنا، لا علاقة له بما يسمّى في علم النفس، ’الانسحاق أمام الخصم‘، الّذي يشعر به المهزوم عادة أمام المنتصر، كما قد يرى البعض من هواة التحليل النفسيّ، إنّما هي شهادة للتاريخ، كتبت في لحظة مكاشفة روحيّة بعد وقوع الأحداث بمدّة. وحاولت أن تبحث في نتائج المعركة ومآلاتها، وأسباب الانتصار والهزيمة، كتبها مؤمن صدمته الشقّة الكبرى بين الأقوال والأفعال، وبين الصورة الوهميّة المشوّهة للعدوّ المسلم، والصورة الحقيقيّة الّتي لمسها عن كثب.

تميّزت شهادات ووثائق المعسكر الصليبيّ بإحساس عميق بالهزيمة التاريخيّة والحضاريّة. فأرنول، وهو مقاتل عقائديّ أسير لا يخفي عقائديّته، سرد شهادته بإحساس عميق بالمرارة من جماعته...

أمّا الوثائق الأخرى المتعلّقة بالمعسكر الصليبيّ، كرسالة رئيس «فرسان الهيكل»، الّتي يستغيث فيها بعد انتصارات المسلمين المتوالية، والانهيارات المتتابعة في صفوف جماعته، فقد بدا القصد منها واضحًا، عبر المبالغة في تقمّص دور الضحيّة، بهدف استدرار العطف من رأس الكنيسة الكاثوليكيّة، وكان له ذلك، إذ سرعان ما تبنّى البابا غريغوري الثامن الدعوة إلى حملة صليبيّة ثالثة.

فبعد أن أرجع أسباب الهزائم الّتي مُني بها أتباع كنيسته إلى المعاصي الّتي يرتكبونها، وجّه رسائل متعدّدة، تتضمّن تعليمات لقهر الجسد، وازدراء المتع الدنيويّة، وفرض صوم وتقشّف، وبذل المال لاستعادة ’القبر المقدّس‘. وتحمّس ملوك أوروبّا لهذه الحملة، وعلى رأسهم ملك إنجلترا هنري الثاني الّذي فرض ضريبة خاصّة سمّيت «ضريبة صلاح الدين العشريّة»، وهي أخذ نسبة 10% من دخل الممتلكات المنقولة وقيمتها لأيّ مواطن إنجليزيّ لتمويل الحملة. تلاه في ذلك ملك فرنسا فيليب الثاني، الّذي فرض الضريبة نفسها على رعايا مملكته، وهي الضرائب الأولى المعروفة في تاريخ الممالك الأوروبّيّة في العصور الوسطى. وربّما تعود هذه الضريبة في أصولها إلى الدول الإسلاميّة، الّتي عرفت ضريبة العشر الأساسيّة في تمويل جهاز الدولة المتقدّم.

 

مسيحيّو الشرق

في ما يخصّ موقف مسيحيّي المشرق ممّا جرى، فلا بدّ من توخّي الحذر قبل اتّخاذ أحكام قطعيّة؛ فكنيسة الروم الأرثوذكس تبنّت موقفًا محايدًا مع ميل ضمنيّ إلى الجانب الإسلاميّ، نتيجة الممارسات الإقصائيّة الّتي مارسها أتباع الكنيسة الكاثوليكيّة معهم، فقد أبطلوا الأبرشيّات الأرثوذكسيّة الشرقيّة في مناطق وجودهم، واستعاضوا عنها بأبرشيّات كاثوليكيّة غربيّة تتبع بابا روما. وحتّى بطريرك الروم الأرثوذكس في بيت المقدس، طُرد من المدينة، وفُرض عليه أن يعيش في المنفى، وحلّ محلّه بطريرك كاثوليكيّ غربيّ.

وهذه الممارسات جعلت أتباع هذه الكنيسة في بلادنا، وهم في غالبيّتهم من العرب المسيحيّين، يتعاطفون ضمنًا مع المسلمين، نظرًا إلى أنّ وضعهم كان أفضل في عهد الدول الإسلاميّة، مقارنة بالإقصاء وحالة العداء السافر الّتي عانوها مع قدوم الصليبيّين. 

لكنّ الموقف يختلف لدى أتباع الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، وتابعتها الكنيسة الأرمنيّة؛ فهؤلاء نظروا إلى الصليبيّين بوصفهم مقاتلين عقائديّين جاؤوا لكي يحقّوا الحقّ، ويضعوا الحدّ لكنيسة الروم المنحرفة، سبب كلّ الرزايا الّتي لحقت بأتباع الديانة، الّتي سبق أن مارست بحقّهم جميع صنوف الاضطهاد والتعسّف، فكان موقفهم متحمّسًا للصليبيّين، وهؤلاء من جانبهم تعاطفوا معهم، وسمحوا لهم البقاء في كنائسهم المقدسيّة.

الموقف يختلف لدى أتباع الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، وتابعتها الكنيسة الأرمنيّة؛ فهؤلاء نظروا إلى الصليبيّين بوصفهم مقاتلين عقائديّين جاؤوا لكي يحقّوا الحقّ، ويضعوا الحدّ لكنيسة الروم المنحرفة...

وإذا أردنا أن نبحث في جذور هذا الموقف، فسنجده في العداء التاريخيّ بين الكنيستين الشرقيّتين السريانيّة والروميّة (الملكيّة)، إذ وقف السريان مع المسلمين في الفتوح الإسلاميّة العمريّة والأمويّة ضدّ الروم البيزنطيّين.

لكنّ الأمر اختلف في الموقف من الدول الإسلاميّة المتابعة بعد ذلك؛ إذ عانى السريان اضطهادات الترك والكرد المسلمين في بلادهم التاريخيّة في الجزيرة الفراتيّة. ولذلك، تميّز موقفهم من انتصارات صلاح الدين وفتح بيت المقدس بهذا القدر من المرارة، وهذا الكمّ من التعاطف مع الفرنجة الصليبيّين.

أمّا القصائد الّتي قيلت في هذا الفتح، فهي أكثر من أن يحاط بها، تجدها مبثوثة في هذا المرجع أو ذاك، وفي هذا الديوان أو ذاك، نظرًا إلى ما مثّله حدث الفتح من استعادة الثقة بالذات الجريحة، وقد تفتّقت القرائح عن الكثير من القصائد الّتي كان أصحابها يقفون على لائمة انتظار لدى العماد الأصفهانيّ، كما أشار غير مرّة عند نشره مقتطفات من بعضها في كتبه، ويبدو أنّ الكثير من الشعراء والأدباء والفقهاء، قطعوا مسافات طويلة للمشاركة في احتفال التحرير في المسجد الأقصى، حيث ألقيت خطبة الجمعة الأولى بعد الانتصار الكبير، وقد نال شرف إلقائها محيي الدين بن الزكيّ، فأتت معبّرة أيّما تعبير عن تلك اللحظة الفريدة في التاريخ.

 


 

العائدون للنشر والتوزيع

 

 

دار نشر أردنيّة تختصّ في نشر المؤلّفات الثقافيّة والفكريّة والإنسانيّة.